بليغ حمدي ونصر أكتوبر المجيد

بليغ حمدي الملحن العبقري

 

رفض الحصول علي أجر قائلا: هذا أقل واجب لحبيبتي مصر

في حرب الاستنزاف لحن يا حبيبتي يا مصر ولما عبرنا دندن عاش اللي قال

عماد خلاف

تمضي الأيام والسنين وتأتي احتفالات ذكري حرب أكتوبر المجيدة متجددة كل عام، وفي كل مرة يخفق قلب مصر  من جديد مع مجموعة من الأغاني التي تعيد إلينا الذكري الأهم والأبرز في تاريخنا الوطني، في مقدمتها دائما ما لحنه بليغ حمدي، ملحن كل الأجيال، ولأنه وطني وفنان وموسيقي فإنه استخدم موسيقاه للتعبير عن وطنيته فكانت النتيجة هي أحلي الأغاني الوطنية التي بقيت من حرب أكتوبر، أغاني استمتعنا إليها بأصوات عبد الحليم ووردة والمجموعة وغيرهم.

أعطي بليغ موسيقاه وألحانه لكثيرين في الوطن العربي، وكان يبحث دائما الأصوات الموهوبة الجديدة، من عفاف راضي إلي شيرين وجدي، ومن ميادة الحناوي في سوريا إلي سميرة سعيد في المغرب، ولطيفة في تونس، وفي أعقاب كارثة يونيو 1967، فجأة خرج بليغ حمدي بموسيقاه وصوت شادية وكلمات محمد حمزة بأغنية تعبيء مشاعر المصريين وتشحذ همتهم جميعا، وفي كل الأغاني التي لحنها بليغ كانت الفكرة تبدأ من داخلة أولا، خصوصا كلما تعلق الأمر بشحنة حب يصبها في قلب مصر ووعيها.

وبعد فترة تحولت أغنية ياحببيتي يا مصر علي لسان الملايين المصريين، وحينما سمع بليغ حمدي بأن قواتنا المسلحة عبرت قناة السويس وبدأت حرب التحرير المجيدة في شهر أكتوبر عام ، 1973، ومع شهر رمضان ساعتها كان المصريون يعيشون في حالة حزن كبير، انطلق وراح إلي مبني الإذاعة والتليفزيون، "ماسبيرو"، وأصبحت محطة إذاعة الشرق الأوسط في المقدمة حيث تعاقدت مع عبد الحليم حافظ علي بطولة المسلسل الدرامي الذي سيذاع يوميا عقب الإفطار في حلقات متتابعة، مسلسل عن قصة من تأليف محمود عوض بعنوان "أرجوك لا تفهمني بسرعة" وتولي إخراجها للإذاعة المخرج محمد علوان، وكان معه في البطولة عادل إمام ونجلاء فتحي وعماد حمدي وأخرون، والأغاني المسلسل يقوم بتلحينها محمد الموجي وبليغ حمدي ومنير مراد.

ومع اليوم العاشر من رمضان السادس من أكتوبر جاء الخبر القنبلة كما يقول الكاتب الصحفي محمود عوض، لقد بدأت حرب أكتوبر حرب تأخرت تأجلت طال انتظارها لكنها جاءت أخيرا لتصبح واقع، وبعد أن وصلت الأخبار من أن قواتنا المسلحة تعبر قناة السويس وتدك الجيش الإسرائيلي أصبح الجميع في الإذاعة يعمل بروحين إذاعة القاهرة أوقفت كل برامجها العادية لكي تتفرغ لمتابعة تطورات الحرب، وفي نفس الوقت عبد الحليم حافظ يسجل حلقات مسلسله الإذاعي.

اختفي بليغ حمدي كما يؤكد محمود عوض الكاتب الصحفي، وعندما سألنا عليه أكدوا أنه في الإذاعة يسجل أغنية جديدة لكي تؤديها المجموعة والأغنية بعنوان "بسم الله" ويذهب إلي ستديو 46 ويسجل أغنية أخري بعنوان علي الربابة التي لحنها وسجلها بصوت وردة، وتكررت ألحانه التي خرجت من القلب إلي قلوب الملايين، لم يكتفي بليغ بالنداء علي مصر عندما قال لها ياحبيبتي يا مصر بل راح يلحن الله أكبر عندما سمع نداء الجنود المصريين وهم يرددون ويعبرون قناة السويس إلي سيناء بسلاحهم، الله أكبر بسم الله.

ويروي كاتبنا محمود عوض عن بليغ حمدي أنه انفعل وفكر وكتب ويستدعي شاعرا غنائيا لينظم له ما كتبه ويتصل بمدير الإذاعة محمد محمود شعبان ويجري إلي أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية وفي ظلام الليل يجري بسيارته إلي الإذاعة ويقفز السلالم إلي ستديو 46 وهناك يجد في انتظاره أفراد الفرقة الماسية جاهزين بألاتهم وقبل آلاتهم هم جاهزون بمشاعرهم نسجل يا رجالة.

كان بليغ يلحن لمصر حبيبته ومحبوته الوحيدة، وبعد انتهاء كل أغنية كان يلحنها ويسجلها بليغ حمدي كان يلاحقه علي السلالم في مبني الإذاعة موظف من إدارة العقود، وينادي عليه: لحظة يا أستاذ بليغ، أرجوك توقع لي علي هذه الأوراق لنصرف لك أجر المستحق عن آخر أغنية لحنتها، يأتيه صوت بليغ خفيض وخجل شديد، يرد علي موظف العقود: أي أجر يا أخي هذه الألحان بلا أجر، سجل في أوراقك أنها هدية مني، هذا أقل واجب وسأقوم بالمزيد، أنا اللي متشكر لك وللإذاعة.

ومن بين المواقف التي يرويها الكاتب محمود عوض حينما اتصل به عبد الحليم حافظ وقال له أنا في الطريق إليك، وبالفعل جاء إليه وثالثهم كان بليغ حمدي الذي رفض في البداية أن يلحن أغنية اللي عاش، قائلا له: يا حليم أنا تحت أمرك ها نغني لمصر، للجيش، للشارع، للناس، تحت أمرك لكن نغني لحاكم مهما علا شأنه أبدا.

ويواصل بليغ حمدي كلماته المؤثرة لعبد الحليم حافظ قائلا: الهزيمة اسمها مصر والنصر اسمه مصر، وهذه الحرب، حرب أكتوبر هي حربنا جميعا، حرب خاضها الجيش المصري الذي قام بحرب الاستنزاف وبحماية نفس الحائط الصاروخي الذي كان جاهزا منذ ثلاث سنوات هل نسميها أذن حرب جمال عبد الناصر، فنحن جميعا تحملنا التضحيات من أجل هذه الحرب، وشهداؤها خيط واحد متصل، وبعد أصرار عبد الحليم حافظ يوافق بليغ أن يلحن أغنية عاش اللي قال الذي كتبها محمد حمزة لتكون أجمل أغاني حرب أكتوبر بالإضافة إلي غيرها من الأغاني الوطنية التي لحنها بليغ حمدي دون مقابل.

مصر بالنسبة لبليغ حمدي هي الناس البسطاء كل الناس، إنهم أكبر جائزة حصل عليها طوال تاريخه، وبصوت شادية لحن لها "أدخلوها آمنين، أدخلوها سالمين، مصر بلد المخلصين، مصر بلد المؤمنين، ومع اليوم الثاني من حرب أكتوبر كانت أغنية "علي الربابة بغني، تم تسجيلها في استوديوهات الإذاعة الذي كتبها عبد الرحيم منصور، وغنتها وردة، وعندما سمعها وجدي الحكيم ومحمود شعبان مسئول الإنتاج الإذاعي في ذلك الوقت، ليسمعها مرة وأثنين وتلاثة ليصرخ بعدها "هاتو الواد بليغ يعرفني عملها إزاي، بالإضافة إلي أغنية سكت الكلام الذي كتبها أيضا عبد الرحيم منصور وغناها عبد الحليم حافظ، وأغنية عبرنا الهزيمة التي غنتها شادية التي كتبها عبد الرحيم منصور وقد استوحي كلماتها من مقالة بالأهرام للكاتب توفيق الحكيم ولحنها أيضا بليغ حمدي.

ورائعة بليغ حمدي "قومي يا مصر" الذي كتبها عبد الرحيم منصور، وغيرها من الأغاني الوطنية التي ألهمت حماس المصريون، بعد أن عبرت قواتنا المسلحة واستردت سيناء، تحية لبليغ حمدي الذي أحب مصر وعشقها ولحن لها أجمل الأغاني الوطنية التي نعيدها كل عام في ذكري انتصارات أكتوبر.