الأربعاء، 29 سبتمبر 2021

عندما ثار المصريون على «الفودفيل» الخليع

 

عزيز عيد 


عماد خلاف

فى الربع الأول من القرن العشرين، بدأت محاولات جادة من بعض الممثلين الكوميديان الذين ظلوا منسيين، وللأسف لم يحظوا بالشهرة الواسعة ولم يذكروا إلا فى المراجع التاريخية التى تؤرخ للمسرح الكوميدى فى مصر، فهم من أسسوا ورسخوا لفن الكوميديا أمثال أحمد فهمى الفار ومحمد ناجى وسلامة القط وحافظ ليمون ومحمد كمال المصرى شرفنطح وسيد قشطة، قبل ظهور على الكسار ونجيب الريحانى وفوزى الجزايرلى وإسماعيل يس وشكوكو وغيرهم ممن يعرفهم الكثير.

 ولم يكن أحد يعرف المسرح الكوميدى بشكله المعتاد إلا مع الحملة الفرنسية، واقتصر عليهم إلى أن ظهر الشوام، ومع بداية عام 1906 لمع اسم عزيز عيد وكون أول فرقة كوميدية ليبدأ معها أول هجوم صحفى فى تاريخ المسرح بسبب تمثيل «الفودفيل»، ولمن لا يعرفه «فأن كلمة الفودفيل كلمة مركبة من فودى فير، أى وادى فير، وفير هذه قرية فى شمال فرنسا، وكان أهلها يتغنون فيما يتغنون بمقطوعات من الشعر قصيرة، تشتمل على تهكم وسخرية بالناس، وقد انتشر هذه الصنف من الشعر فى فرنسا، حتى تسرب إلى المسارح واختلط بالكوميدية، وفى أواخر القرن التاسع عشر وأوئل القرن العشرين، أصبح الفودفيل جنسًا دراميًا يصور موضوعات معينة كالمغامرة، ومواقف الخيانة الزوجية، والحب غير الشرعى، ولتأثر عزيز عيد بالفرق الفرنسية قام بتمصير بعض المسرحيات، وبدأ عروضه بمسرحية فودفيلية بعنوان «مباغتات الطلاق» بمسرح دار التمثيل العربى.

ثم توالت العروض لفرقة عزيز عيد على العديد من المسارح، من بينها تياترو عباس بشارع قنطرة الدكة، ومسرح الحمراء وصالة الأعياد بالإسكندرية، ومن بين هذه العروض الكوميدية «ضربة مقرعة وكوميديا، والابن الخارق للطبيعة، والماسون، والملك يلهو، والزفاف عند الإفرنجى أو ليلة الزفاف».

حاول عزيز عيد إنقاذ فرقته الكوميدية الأولى بعد عزوف المشاهد عنها، لاعتماده على «الفودفيل» الذى لم تستهوَ المشاهد المصرى، ويقوم بعرض بعض المسرحيات المألوفة عند الجماهير، مثل مسرحية «الكابورال العجوز أو الإرث المغتصب»، ومسرحية «فى سبيل الاستقلال»، ورغم ما فعله عزيز عيد امتنع الجمهور عن الحضور، وتوقفت الفرقة الأولى الكوميدية فى تاريخ مصر، لينضم عزيز عيد مرة أخرى إلى فرقة سلامة حجازى، وبعدها إلى فرقة أولاد عكاشة، وفرقة جورج أبيض، ليعود ممثلًا كما كان.

وفى عام 1913 عاد عزيز عيد مرة أخرى وكون فرقة كوميدية، لتتجول بالمحافظات، وبدأها بالمنيا، بمسرحية ليلة الزفاف، وأشار فى إعلاناته عدم حضور السيدات والتلاميذ، فزاد الإقبال الجماهيرى بسبب هذا المنع، وبعد تمثيل المسرحية نشر أحد أعيان المنيا فى الصحف مقالًا تحت عنوان حافظوا على الآداب، جاء فيه: "لاحظ جميع من حضر التمثيل من الفضلاء عدم لياقة تمثيل هذه الرواية فى بلادنا، لما احتوت عليه من ضروب الخلاعة والأمور المخجلة المعيبة، وليس من حسن الذوق أن يشاهد الناس فى اجتماعاتهم العمومية خلاعة المرأة ونومها فى سريرها بملابسها الشفافة، وخلع الرجل لملابسه ليهم بها وتقبليها مرارًا، نقول هذا لأن التمثيل إنما وجد لتهذيب الأخلاق وتقويمها، وعليه نطلب من جوق عزيز أفندى عيد عدم تمثيل هذه الرواية مرة أخرى، وبعد هذا الهجوم لم تستمر الفرقة طويلًا فتوقفت عن عملها مرة ثانية، بعد عروض متفرقة لم تستغرق سوى شهرين فقط".

إصرار عزيز عيد جعله يفكر مرة ثالثة، ورغم حالة الهياج والرفض التى صاحبت العروض المسرحية لعزيز عيد، إلا أنه لم يتراجع وأصر على العودة  فى عام 1915 وكون فرقة كوميدية ضمت نجيب الريحانى فى بداية حياته، وروز اليوسف، التى لقبت حينها بالفودفيلية، مستغلا اضطراب الأحوال الاجتماعية والسياسية المصرية بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، وكثرة وجود الجنود الأجانب فى شوارع القاهرة، ومن هذه المسرحيات خلى بالك من إميلى، ياستى ما تمشيش كده عريانة، ليلة الزفاف، عندك حاجة تبلغ عنها، مدموزيل جوزيت مراتى، المشعوذ بالفجور، حماتان على راجل واحد، وظلت هذه المسرحيات تعرض حتى فبراير 1916، إلى أن شاهدتها فتاة فأرسلت خطابًا إلى جريدة المنبر هاجمت فيه أضرار العروض الفودفيلية على الأخلاق والعادات والتقاليد العربية والمصرية، فاستغلت الجريدة هذا الخطاب لتقيم هجومًا صحافيًا على فرقة عزيز عيد وعروضها الماجنة، حيث خصصت بابًا ثابتًا لنشر هذا الخطاب، أطلقت عليه الباب المطلق، وحثت القراء والمعنيين بالأمر للرد عليه.

 توالت الردود المختلفة بين مؤيد ومعارض على الصحف، حتى أصبحت قضية رأى عام، وانضمت جريدة الوطن إلى الحملة على الفودفيل ومضاره، وانتقلت القضية من الجدل الصحفى إلى المقاطعة الجماهيرية وإحداث الشغب، حيث قام طلاب الجامعة المصرية بإحداث صخب وضجيج أثناء عرض مسرحيات عزيز عيد بمسرح برنتانيا، ما تسبب فى إيقافها، وعندما تركت الفرقة العاصمة، وحاولت عرض مسرحياتها الفودفيلية فى منيا القمح، أمر مأمور مركز بإنزال الستار على الفودفيل الخاص بعزيز عيد الذى استسلم أخيرًا وبصورة رسمية، من خلال اعتذار نشره فى جريدة المقطم وجهه إلى ميخائيل أرمانيوس، قال فيه: "الآن أمد يدى إليك مصافحًا وشاكرا، أما مصافحا فعلى إساءتى التى قابلت بها إحسان جريدة الوطن وجميلها وأما شاكرًا فعلى ما نشرته من النصائح التى أيقظت روحى من غفلتها قبل أن أقذف بها إلى الهوة العميقة التى كدت أسقط فيها من جراء تمثيل الفودفيل الخليع، حقًا لا تعاند العين سهمًا إلا وتفقع، ولا تناضل اليد سيفًا إلا وتقطع".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق